فصل: تفسير الآيات (34- 42):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (34- 42):

{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)}
لما قصّ سبحانه حال من تقدّم من الكفار أتبعه بما فيه التسلية لرسوله، وبيان أن كفر الأمم السابقة بمن أرسل إليهم من الرسل هو كائن مستمرّ في الأعصر الأوّل، فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا في قَرْيَةٍ} من القرى {مّن نَّذِيرٍ} ينذرهم، ويحذرهم عقاب الله {إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا} أي: رؤساؤها، وأغنياؤها، وجبابرتها، وقادة الشرّ لرسلهم: {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون} أي: بما أرسلتم به من التوحيد، والإيمان، وجملة: {إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا} في محل نصب على الحال. ثم ذكر ما افتخروا به من الأموال، والأولاد، وقاسوا حالهم في الدار الآخرة على حالهم في هذه الدار على تقدير صحة ما أنذرهم به الرسل، فقال: {وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أموالا وأولادا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} والمعنى: أن الله فضلنا عليكم بالأموال والأولاد في الدنيا، وذلك يدلّ على: أنه قد رضي ما نحن عليه من الدين، {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} في الآخرة بعد إحسانه إلينا في الدنيا، ورضاه عنا.
فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يجيب عنهم، وقال: {قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء} أن يبسطه له {وَيَقْدِرُ} أي: يضيق على من يشاء أن يضيقه عليه، فهو سبحانه قد يرزق الكافر، والعاصي استدراجاً له، وقد يمتحن المؤمن المطيع بالتقتير توفيراً لأجره، وليس مجرّد بسط الرزق لمن بسطه له يدل على أنه قد رضي عنه، ورضي عمله، ولا قبضه عمن قبضه عنه يدل على أنه لم يرضه، ولا رضي عمله، فقياس الدار الآخرة على الدار الأولى في مثل هذا من الغلط البين، أو المغالطة الواضحة {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} هذا، ومن جملة هؤلاء الأكثر من قاس أمر الآخرة على الأولى، ثم زاد هذا الجواب تأييداً، وتأكيداً {وَمَا أموالكم وَلاَ أولادكم بالتى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زلفى} أي: ليسوا بالخصلة التي تقرّبكم عندنا قربى. قال مجاهد: الزلفى القربى، والزلفة: القربة. قال الأخفش: زلفى اسم مصدر كأنه قال بالتي تقربكم عندنا تقريباً، فتكون زلفى منصوبة المحلّ. قال الفرّاء: إن التي تكون للأموال والأولاد جميعاً.
وقال الزجاج: إن المعنى: وما أموالكم بالتي تقرّبكم عندنا زلفى، ولا أولادكم بالشيء يقرّبكم عندنا زلفى، ثم حذف خبر الأول لدلالة الثاني عليه، وأنشد:
نحن بما عندنا وأنت بما عن ** دك راض والرأي مختلف

ويجوز في غير القرآن باللتين، واللاتي، وباللواتي، وبالذي للأولاد خاصة، أي: لا تزيدكم الأموال عندنا درجة ورفعة، ولا تقربكم تقريباً {إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} هو استثناء منقطع، فيكون محله النصب، أي: لكن من آمن، وعمل صالحاً، أو في محل جرّ بدلاً من الضمير في تقرّبكم، كذا قال الزجاج.
قال النحاس: وهذا القول غلط، لأن الكاف والميم للمخاطب، فلا يجوز البدل، ولو جاز هذا لجاز رأيتك زيداً. ويجاب عنه بأن الأخفش والكوفيين يجوّزون ذلك، وقد قال بمثل قول الزجاج الفراء، وأجاز الفراء: أن يكون في موضع رفع بمعنى: ما هو إلاّ من آمن، والإشارة بقوله: {فَأُوْلَئِكَ} إلى من، والجمع باعتبار معناها، وهو مبتدأ، وخبره {لَهُمْ جَزَاء الضعف} أي: جزاء الزيادة، وهي المرادة بقوله: {مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول، أي: جزاء التضعيف للحسنات. وقيل: لهم جزاء الإضعاف؛ لأن الضعف في معنى الجمع، والباء في {بِمَا عَمِلُواْ} للسببية {وَهُمْ في الغرفات ءامِنُونَ} من جميع ما يكرهون، والمراد غرفات الجنة، قرأ الجمهور: {جزاء الضعف} بالإضافة، وقرأ الزهري، ويعقوب، ونصر بن عاصم، وقتادة برفعهما على أن الضعف بدل من جزاء.
وروي عن يعقوب: أنه قرأ: {جزاء} بالنصب منوناً، و: {الضعف} بالرفع على تقدير: فأولئك لهم الضعف جزاء، أي: حال كونه جزاء. وقرأ الجمهور: {في الغرفات} بالجمع، واختار هذه القراءة أبو عبيد لقوله: {لَنُبَوّئَنَّهُمْ مّنَ الجنة غُرَفَاً} [العنكبوت: 58]. وقرأ الأعمش، ويحيى بن وثاب، وحمزة، وخلف: {في الغرفة} بالإفراد لقوله: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الغرفة} [الفرقان: 75] ولما ذكر سبحانه حال المؤمنين ذكر حال الكافرين، فقال: {والذين يَسْعَوْنَ في ءاياتنا} بالردّ لها، والطعن فيها حال كونهم {معاجزين} مسابقين لنا زاعمين أنهم يفوتوننا بأنفسهم، أو معاندين لنا بكفرهم {أُوْلَئِكَ في العذاب مُحْضَرُونَ} أي: في عذاب جهنم تحضرهم الزبانية إليها لا يجدون عنها محيصاً. ثم كرّر سبحانه ما تقدّم لقصد التأكيد للحجة، والدفع لما قاله الكفرة، فقال: {قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} أي: يوسعه لمن يشاء، ويضيقه على من يشاء، وليس في ذلك دلالة على سعادة، ولا شقاوة {وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَئ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} أي: يخلفه عليكم، يقال: أخلف له، وأخلف عليه: إذا أعطاه عوضه، وبدله، وذلك البدل إما في الدنيا، وإما في الآخرة {وَهُوَ خَيْرُ الرزقين} فإن رزق العباد لبعضهم البعض إنما هو بتيسير الله، وتقديره، وليسوا برازقين على الحقيقة بل على طريق المجاز، كما يقال: في الرجل إنه يرزق عياله، وفي الأمير إنه يرزق جنده، والرازق للأمير، والمأمور، والكبير، والصغير هو: الخالق لهم، ومن أخرج من العباد إلى غيره شيئاً مما رزقه الله، فهو إنما تصرّف في رزق الله له، فاستحق بما خرج منه الثواب عليه المضاعف لامتثاله لأمر الله، وإنفاقه فيما أمره الله.
{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} الظرف منصوب بفعل مقدّر نحو اذكر، أو هو متصل بقوله: {وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ} [سبأ: 31] أي: ولو تراهم أيضاً يوم نحشرهم جميعاً للحساب العابد، والمعبود، والمستكبر، والمستضعف، {ثُمَّ نَقُولُ للملائكة أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} تقريعاً للمشركين، وتوبيخاً لمن عبد غير الله عزّ وجلّ كما في قوله لعيسى: {ءأَنْتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله} [المائدة: 116]، وإنما خصص الملائكة بالذكر مع أن بعض الكفار قد عبد غيرهم من الشياطين، والأصنام؛ لأنهم أشرف معبودات المشركين. قال النحاس: والمعنى: أن الملائكة إذا أكذبتهم كان في ذلك تبكيت للمشركين، وجملة {قَالُواْ سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ} مستأنفة جواب سؤال مقدّر، أي: تنزيهاً لك أنت الذي نتولاه، ونطيعه، ونعبده من دونهم، ما اتخذناهم عابدين، ولا توليناهم، وليس لنا غيرك ولياً، ثم صرّحوا بما كان المشركون يعبدونه، فقالوا: {بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن} أي: الشياطين، وهم: إبليس، وجنوده، ويزعمون: أنهم يرونهم، وأنهم ملائكة، وأنهم بنات الله. وقيل: كانوا يدخلون أجواف الأصنام، ويخاطبونهم منها {أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} أي: أكثر المشركين بالجنّ مؤمنون بهم مصدّقون لهم. قيل: والأكثر في معنى: الكلّ.
{فاليوم لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً} يعني: العابدين، والمعبودين لا يملك بعضهم، وهم: المعبودون لبعض، وهم: العابدون {نَفْعاً} أي: شفاعة، ونجاة {وَلاَ ضَرّا} أي: عذاباً، وهلاكاً، وإنما قيل لهم: هذا القول إظهاراً لعجزهم، وقصورهم، وتبكيتاً لعابديهم، وقولهم: {وَلاَ ضَرّا} هو على حذف مضاف، أي: لا يملكون لهم دفع ضرّ، وقوله: {وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} عطف على قوله: {نَّقُولُ للملائكة} أي: للذين ظلموا أنفسهم بعبادة غير الله {ذُوقُواْ عَذَابَ النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ} في الدنيا.
وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي رزين قال: كان رجلان شريكين، خرج أحدهما إلى الساحل، وبقي الآخر، فلما بعث الله النبيّ صلى الله عليه وسلم كتب إلى صاحبه يسأله ما فعل؟ فكتب إليه أنه لم يتبعه أحد من قريش إلاّ رذالة الناس ومساكينهم، فترك تجارته، ثم أتى صاحبه، فقال: دلني عليه، وكان يقرأ الكتب، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إلى ما تدعو؟ قال: إلى كذا، وكذا، قال: أشهد أنك رسول الله، قال: وما علمك بذلك؟ قال: إنه لم يبعث نبيّ إلاّ اتبعه رذالة الناس، ومساكينهم، فنزلت هذه الآيات {وَمَا أَرْسَلْنَا في قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا} الآيات، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله قد أنزل تصديق ما قلت».
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد في قوله: {جَزَاء الضعف} قال: تضعيف الحسنة.
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب قال: إذا كان الرجل غنياً تقياً آتاه الله أجره مرتين، وتلا هذه الآية {وَمَا أموالكم وَلاَ أولادكم} إلى قوله: {فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضعف} قال: تضعيف الحسنة.
وأخرج سعيد بن منصور، والبخاري في الأدب المفرد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَئ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} قال: في غير إسراف، ولا تقتير، وعن مجاهد مثله. وعن الحسن مثله.
وأخرج الدارقطني، والبيهقي في الشعب عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلما أنفق العبد من نفقة، فعلى الله خلفها ضامناً إلاّ نفقة في بيان، أو معصية».
وأخرج نحوه ابن عدي في الكامل، والبيهقي من وجه آخر عنه مرفوعاً بأطول منه.
وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله عزّ وجلّ: أنفق يا ابن آدم أنفق عليك» وثبت في الصحيح من حديثه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلاّ وملكان ينزلان؛ فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعطِ ممسكاً تلفاً».
وأخرج ابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن لكل يوم نحساً، فادفعوا نحس ذلك اليوم بالصدقة» ثم قال: اقرءوا مواضع الخلف، فإني سمعت رسول الله يقول: «وما أنفقتم من شيء، فهو يخلفه إذا لم تنفقوا كيف يخلف».
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن المعونة تنزل من السماء على قدر المئونة».

.تفسير الآيات (43- 50):

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آَتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آَتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)}
ثم ذكر سبحانه نوعاً آخر من أنواع كفرهم، فقال: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا} أي: الآيات القرآنية حال كونها {بينات} واضحات الدلالات ظاهرات المعاني {قَالُواْ مَا هذا} يعنون: التالي لها، وهو النبي {إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُم} أي: أسلافكم من الأصنام التي كانوا يعبدونها {وَقَالُواْ} ثانياً {مَا هذا} يعنون: القرآن الكريم {إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى} أي: كذب مختلق {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ} ثالثاً {لِلْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ} أي: لأمر الدين الذي جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم {إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} وهذا الإنكار منهم خاص بالتوحيد، وأما إنكار القرآن، والمعجزة، فكان متفقاً عليه بين أهل الكتاب، والمشركين. وقيل: أريد بالأوّل، وهو قولهم: {إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى} معناه، وبالثاني، وهو قولهم: {إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} نظمه المعجز. وقيل: إن طائفة منهم قالوا: إنه إفك، وطائفة قالوا: إنه سحر. وقيل: إنهم جميعاً قالوا: تارة إنه إفك، وتارة إنه سحر، والأوّل أولى.
{وَمَا ءاتيناهم مّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا} أي: ما أنزلنا على العرب كتباً سماوية يدرسون فيها {وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مّن نَّذِيرٍ} يدعوهم إلى الحقّ، وينذرهم بالعذاب، فليس لتكذيبهم بالقرآن وبالرسول وجه، ولا شبهة يتشبثون بها. قال قتادة: ما أنزل الله على العرب كتاباً قبل القرآن، ولا بعث إليهم نبياً قبل محمد صلى الله عليه وسلم. قال الفرّاء، أي: من أين كذبوك، ولم يأتهم كتاب، ولا نذير بهذا الذي فعلوه. ثم خوّفهم سبحانه، وأخبر عن عاقبتهم، وعاقبة من كان قبلهم، فقال: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ} من القرون الخالية {وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَا ءاتيناهم} أي: ما بلغ أهل مكة من مشركي قريش، وغيرهم من العرب عشر ما آتينا من قبلهم من القوّة، وكثرة المال، وطول العمر، فأهلكهم الله، كعاد، وثمود، وأمثالهم. والمعشار: هو: العشر. قال الجوهري: معشار الشيء عشره. وقيل المعشار: عشر العشر، والأوّل أولى. وقيل: إن المعنى: ما بلغ من قبلهم معشار ما آتينا هؤلاء من البينات والهدى. وقيل: ما بلغ من قبلهم معشار شكر ما أعطيناهم. وقيل: ما أعطى الله من قبلهم معشار ما أعطاهم من العلم، والبيان، والحجة، والبرهان، والأوّل أولى. وقيل: المعشار عشر العشير، والعشير عشر العشر، فيكون جزءاً من ألف جزء. قال الماوردي: وهو الأظهر؛ لأن المراد به المبالغة في التقليل، قلت: مراعاة المبالغة في التقليل لا يسوغ لأجلها الخروج عن المعنى العربي، وقوله: {فَكَذَّبُواْ رُسُلِى} عطف على {كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} على طريقة التفسير، كقوله: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا}
[القمر: 9] الآية، والأولى أن: يكون من عطف الخاص على العام، لأن التكذيب الأول لما حذف منه المتعلق للتكذيب أفاد العموم، فمعناه: كذبوا الكتب المنزلة، والرسل المرسلة، والمعجزات الواضحة، وتكذيب الرسل أخص منه، وإن كان مستلزماً له، فقد روعيت الدلالة اللفظية لا الدلالة الالتزامية {فَكَيْفَ كَانَ} أي: فكيف كان إنكاري لهم بالعذاب، والعقوبة، فليحذر هؤلاء من مثل ذلك. قيل: وفي الكلام حذف. والتقدير: فأهلكناهم، فكيف كان نكير، والنكير اسم بمعنى: الإنكار.
ثم أمر سبحانه رسوله: أن يقيم عليهم حجة ينقطعون عندها، فقال: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بواحدة} أي: أحذركم، وأنذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه، وأوصيكم بخصلة واحدة، وهي: {أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى} هذا تفسير للخصلة الواحدة، أو بدل منها، أي: هي قيامكم وتشميركم في طلب الحقّ بالفكرة الصادقة متفرقين اثنين اثنين، وواحداً واحداً، لأن الاجتماع يشوّش الفكر. وليس المراد القيام على الرجلين، بل المراد القيام بطلب الحقّ، وإصداق الفكر فيه، كما يقال: قام فلان بأمر كذا {ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ} في أمر النبيّ، وما جاء به من الكتاب، فإنكم عند ذلك تعلمون أن {مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ}، وذلك؛ لأنهم كانوا يقولون: إن محمداً مجنون، فقال الله سبحانه: قل لهم: اعتبروا أمري بواحدة، وهي: أن تقوموا لله، وفي ذاته مجتمعين، فيقول الرجل لصاحبه: هلمّ، فلنتصادق، هل رأينا بهذا الرجل من جنة، أي: جنون، أو جرّبنا عليه كذباً، ثم ينفرد كل واحد عن صاحبه، فيتفكر، وينظر، فإن في ذلك ما يدل على أن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق، وأنه رسول من عند الله، وأنه ليس بكاذب، ولا ساحر، ولا مجنون، وهو معنى قوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} أي: ما هو إلاّ نذير لكم بين يدي الساعة. وقيل: إن جملة {مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ} مستأنفة من جهة الله سبحانه مسوقة للتنبيه على طريقة النظر والتأمل بأن هذا الأمر العظيم، والدعوى الكبيرة لا يعّرض نفسه له إلاّ مجنون لا يبالي بما يقال فيه، وما ينسب إليه من الكذب، وقد علموا: أنه أرجح الناس عقلاً، فوجب: أن يصدّقوه في دعواه، لاسيما مع انضمام المعجزة الواضحة، وإجماعهم على أنه لم يكن ممن يفتري الكذب، ولا قد جرّبوا عليه كذباً مدّة عمره، وعمرهم. وقيل: يجوز أن تكون {ما} في {مَا بصاحبكم} استفهامية، أي: ثم تتفكروا أيّ شيء به من آثار الجنون. وقيل: المراد بقوله: {إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بواحدة} هي: لا إله إلاّ الله كذا قال مجاهد، والسدّي. وقيل: القرآن؛ لأنه يجمع المواعظ كلها، والأولى ما ذكرناه أوّلاً.
وقال الزجاج: إن {أن} في قوله: {أَن تَقُومُواْ} في موضع نصب بمعنى: لأن تقوموا.
وقال السدّي: معنى مثنى وفرادى: منفرداً برأيه، ومشاوراً لغيره.
وقال القتيبي: مناظراً مع عشيرته، ومفكراً في نفسه. وقيل: المثنى عمل النهار، والفرادى عمل الليل، قاله الماوردي. وما أبرد هذا القول، وأقلّ جدواه. واختار أبو حاتم، وابن الأنباري الوقف على قوله: {ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ}، وعلى هذا تكون جملة: {مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ} مستأنفة كما قدّمنا. وقيل: ليس بوقف، لأن المعنى: ثم تتفكروا هل جربتم عليه كذباً، أو رأيتم منه جنة، أو في أحواله من فساد.
ثم أمر سبحانه أن يخبرهم: أنه لم يكن له غرض في الدنيا، ولا رغبة فيها حتى تنقطع عندهم الشكوك، ويرتفع الريب، فقال: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} أي: ما طلبت منكم من جعل تجعلونه لي مقابل الرسالة، فهو لكم إن سألتكموه، والمراد نفي السؤال بالكلية، كما يقول القائل: ما أملكه في هذا، فقد وهبته لك، يريد أنه لا ملك له فيه أصلاً، ومثل هذه الآية قوله: {قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة في القربى} [الشورى: 23]، وقوله: {مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إلى رَبّهِ سَبِيلاً} [الفرقان: 57]. ثم بين لهم: أن أجره عند الله سبحانه، فقال: {إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله} أي: ما أجري إلاّ على الله لا على غيره {وَهُوَ على كُلّ شَئ شَهِيدٍ} أي: مطلع لا يغيب عنه منه شيء. {قُلْ إِنَّ رَبّى يَقْذِفُ بالحق} القذف الرمي بالسهم، والحصى، والكلام. قال الكلبي: يرمي على معنى: يأتي به، وقال مقاتل: يتكلم بالحق، وهو: القرآن، والوحي، أي: يلقيه إلى أنبيائه.
وقال قتادة {بالحق} أي: بالوحي، والمعنى: أنه يبين الحجة، ويظهرها للناس على ألسن رسله، وقيل: يرمي الباطل بالحق، فيدمغه {علام الغيوب} قرأ الجمهور برفع: {علام} على أنه خبر ثانٍ لإنّ، أو خبر مبتدأ محذوف، أو بدل من الضمير في يقذف، أو معطوف على محل اسم إن. قال الزجاج: الرفع من وجهين على الموضع، لأن الموضع موضع رفع، أو على البدل. وقرأ زيد بن علي، وعيسى بن عمر، وابن أبي إسحاق بالنصب نعتاً لاسم إنّ، أو بدلاً منه، أو على المدح. قال الفراء: والرفع في مثل هذا أكثر كقوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار} [ص: 64]، وقرئ الغيوب بالحركات الثلاث في الغين، وهو: جمع غيب، والغيب هو: الأمر الذي غاب وخفي جدًّا.
{قُلْ جَاء الحق} أي: الإسلام، والتوحيد.
وقال قتادة: القرآن.
وقال النحاس: التقدير صاحب الحقّ، أي: الكتاب الذي فيه البراهين، والحجج.
وأقول: لا وجه لتقدير المضاف، فإن القرآن قد جاء كما جاء صاحبه. {وَمَا يُبْدِئ الباطل وَمَا يُعِيدُ} أي: ذهب الباطل ذهاباً لم يبق منه إقبال، ولا إدبار، ولا إبداء، ولا إعادة. قال قتادة: الباطل هو: الشيطان، أي: ما يخلق لشيطان ابتداء، ولا يبعث، وبه قال مقاتل، والكلبي.
وقيل: يجوز أن تكون ما استفهامية، أي: أيّ شيء يبديه، وأيّ شيء يعيده؟ والأوّل أولى. {قُلْ إِن ضَلَلْتُ} عن الطريق الحقة الواضحة {فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفْسِى} أي: إثم ضلالتي يكون على نفسي، وذلك أن الكفار قالوا له: تركت دين آبائك، فضللت، فأمره الله: أن يقول لهم هذا القول: {وَإِنِ اهتديت فِيمَا يُوحِى إِلَىَّ رَبّى} من الحكمة، والموعظة، والبيان بالقرآن {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} مني ومنكم يعلم الهدى والضلالة. قرأ الجمهور: {ضللت} بفتح اللام، وقرأ الحسن، ويحيى بن وثاب بكسر اللام، وهي لغة أهل العالية.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس {وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَا ءاتيناهم} يقول: من القوّة في الدنيا.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي في الآية قال: يقوم الرجل مع الرجل، أو وحده، فيفكر ما بصاحبه من جنة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة {مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ} يقول: إنه ليس بمجنون.
وأخرج هؤلاء عنه أيضاً في قوله: {مَا سَأَلْتُكُم مّن أَجْرٍ} أي: من جعل، فهو لكم، يقول: لم أسألكم على الإسلام جعلاً، وفي قوله: {قُلْ إِنَّ رَبّى يَقْذِفُ بالحق} قال: بالوحي، وفي قوله: {وَمَا يُبْدِئ الباطل وَمَا يُعِيدُ} قال: الشيطان لا يبدئ ولا يعيد إذا هلك.
وأخرج هؤلاء أيضاً عنه في قوله: {وَمَا يُبْدِئ الباطل وَمَا يُعِيدُ} قال: ما يخلق إبليس شيئاً، ولا يبعثه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن عمر بن سعد في قوله: {إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفْسِى} قال: إنما أوخذ بجنايتي.